بقلم ديفيد دافيديان
نُقل عن الجنرال الأمريكي جورج باتون قوله: “لقد استمتع الغزاة الرومان لأكثر من ألف عام عند العودة من الحروب بشرف الانتصار، وإقامة المواكب الصاخبة. وفي هذه المواكب يسير عازفو الأبواق والموسيقيون والحيوانات المختلفة من الأراضي المنهزمة إلى جانب عربات محملة بالكنوز والأسلحة التي تم الاستيلاء عليها. يركب الغزاة عربة النصر، ويسير السجناء أمامهم مقيدون بالسلاسل في حالة من الذهول واللاوعي. أحيانًا كان الأطفال يرتدون ملابس بيضاء ويقفون معهم في عربتهم أو يمتطون الخيول. ويقف أحد العبيد خلف المنتصر حاملاً تاجًا ذهبيًا ويهمس في أذنه محذراً أن كل هذا المجد يزول “. بعد الانتصار الجزئي لأذربيجان في حرب كاراباخ الثانية، أظهر الرئيس الأذربيجاني علييف جميع ملاحظات باتون تقريبًا لكن بمظهرها الحديث. كل ما تبقى هو شخص ما ليهمس في أذن علييف.
بسبب الفوضى التي نشأت عن جميع النزاعات التي تم الانتصار فيها جزئيًا، فقد أسفرت حرب كاراباخ الثانية عن تحديات غير متوقعة لأذربيجان. تتمثل أحد التحديات المزعجة التي يواجهها علييف في حقيقة أن الأرمن هم السكان الأصليون لهذه المنطقة، وبالتالي فإنه يحتاج إلى القضاء وجودهم لإعطاء مبرر تاريخي لمطالب باكو الإقليمية. وبينما فقد الأرمن الكثير من الأراضي التي حكموها لما يقرب من ثلاثين عامًا -ناغورنو كاراباخ والمناطق المحيطة بها- فإن أذربيجان تعمل على ترسيخ انتصارها الجزئي من خلال هدم أي تعبير عن الثقافة الأرمنية على الأرض الخاضعة الآن لسيطرتها. ومع ذلك، لا يمكن لأذربيجان أن تدعي النصر الكامل على الأرمن لأن أذربيجان لا تمارس السيادة على الأرمن في قلب ناغورنو كاراباخ. حيث اتفق كل من أذربيجان وأرمينيا على قبول “قوات حفظ السلام” الروسية على الأرض التي تدعي أذربيجان السيادة عليها كأساس لوقف إطلاق النار في الحرب. وعلى الأرجح، فبدون “قوات حفظ السلام” هذه، لن يكون هناك وجود للأرمن فيما تبقى لهم من ناغورنو كاراباخ. تفضل أذربيجان أن يكون لها سلطة كاملة على كل ما تعتبره حدودها المعترف بها دوليًا بينما تنشر في الوقت نفسه عدة آلاف من جنودها خارج هذا الترسيم على الأراضي التي تخضع للسيادة الأرمنية. ما يوضح أن هذا نفاق أذربيجاني، فمن خلال الانخراط في الإجراءات التي اتُهم الأرمن بها لجيل كامل، قد تبدو باكو منافقة، فهذه الإجراءات هي في الواقع تعبير عن دبلوماسية باكو المتوقفة. سنقوم بتوضيح هذه القيود الدبلوماسية من خلال ما يلي:
1 – رفضت أذربيجان يوم 23 أغسطس 2021حضور منصة القرم، التي قام بحضورها 47 دولة أخرى. كان هذا الحدث مبادرة دبلوماسية من قبل أوكرانيا ورئيسها. مصممة لتكون آلية تنسيق دولية لاستعادة العلاقات بين روسيا وأوكرانيا عن طريق عكس ضم شبه جزيرة القرم عام 2014 من قبل الاتحاد الروسي. هذه القمة لم تكن في مصلحة روسيا، وسيكون عندها حضور أذربيجان مهينا لروسيا. إذا كانت القدرات العسكرية والدبلوماسية لأذربيجان تحت سيطرتها بالكامل، فمن المنطقي أن تدعم باكو استعادة السيادة الأوكرانية على شبه جزيرة القرم لأنها توازي ما تطالب به أذربيجان في استعادة ما تعتبره حدودها المعترف بها دوليًا والتي تشمل ناغورنو كاراباخ. تركيا، الأخ الأكبر لأذربيجان، تدعم بشكل كامل شبه جزيرة القرم الأوكرانية ونتيجة لذلك، تواجه أذربيجان معضلة سياسية.
2 – سابقا في أغسطس 2021، طلب وزير دفاع كوسوفو من أذربيجان الاعتراف الرسمي من باكو بهذا الكيان الذي أنشأه الناتو. من غير الواضح ما الذي كانت تفكر فيه بريشتينا عندما طلبت مثل هذا الطلب من باكو، ومع الأخذ في الاعتبار أن كوسوفو قد نشأت في ظل ظروف موازية لإنشاء ناغورنو كاراباخ، ومن الواضح أن هذا موقف غير مرغوب لأذربيجان. فإذا كانت باكو لا تواجه أي عوائق عسكرية أو دبلوماسية عالقة فيما يتعلق بناغورنو كاراباخ، فقد تختار (بغض النظر عن نفاقها) الاعتراف بكوسوفو بالنظر إلى شركاء أذربيجان الاستراتيجيين تركيا وباكستان وإسرائيل الذين يعترفون أيضًا بكوسوفو.
3 – تتعرض أذربيجان لضغوط تركية للاعتراف بالاحتلال التركي لشمال قبرص كدولة منفصلة. إذا اعترفت باكو بهذا الكيان كدولة ذات سيادة، فمن المؤكد أن ذلك سيتسبب في رد فعل من قبل اليونان وجمهورية قبرص وهما أعضاء في الاتحاد الأوروبي مما سيؤدي إلى فرض عقوبات فورية على باكو. وستقوم كل من اليونان وقبرص بالانتقام والاعتراف بناغورنو كاراباخ. وعلى الرغم من أن أذربيجان تمد أوروبا بالغاز المتعطشة له عبر اليونان عن طريق خط الأنابيب الأذربيجاني التركي العابر للبحر الأدرياتيكي (TAP)، فإن التكلفة الاقتصادية والدبلوماسية ستكون باهظة للغاية بالنسبة لباكو لكي تقوم بوقف إمدادات الغاز بعد عقوبات الاتحاد الأوروبي بعد اعتراف أذربيجان بشمال قبرص. رفضت أذربيجان الاعتراف بجمهورية ناغورنو كاراباخ واتهمت الأرمن بانتهاك الحدود المعترف بها دوليًا. ولقد فعلت تركيا في شمال قبرص ما “تتهم” أذربيجان الأرمن بفعله. يمكن لأذربيجان الاعتراف بشمال قبرص، لكن عقوبات الاتحاد الأوروبي اللاحقة وخسارة عائدات الغاز ستبقي يديها مكبلة.
4 – استسلمت أذربيجان لوحدة تتكون من ألفي جندي من قوات حفظ السلام الروسية المتمركزة فيما تعتبره باكو أرضها المعترف بها دوليًا، والأسوأ من ذلك، الأراضي التي تدعي أنها فازت بها من الأرمن أيضا. تقوم هذه الوحدة بفصل الأرمن المتبقين في ناغورنو كاراباخ عن الجيش الأذربيجاني. ومع ذلك، يمكن في لحظات أن تلعب هذه الوحدة الروسية أي دور معزز لمصلحة روسيا دون طلب إذن باكو. وبالمثل، قد تود تركيا أن تشكل قاعدة لها في أذربيجان، لكن باكو ستكون هينها عرضة لغضب موسكو. يبدو أن أذربيجان لا تتحكم بشكل كامل في سياساتها الداخلية.
5 – الإعلان الأخير عن وجود احتياطيات غاز كبيرة في القطاع الإيراني من بحر قزوين، مع القدرة على توفير عشرين في المائة من احتياجات أوروبا من الغاز، يمكن أن يقوم بتحفيز الاتحاد الأوروبي لإعادة النظر في رفع العقوبات عن إيران. تقوم مصالح استخراج الهيدروكربونات والنقل بمراقبة مثل هذا الاستكشاف، وخاصة الموردين الإقليميين مثل روسيا وأذربيجان. تنظر روسيا وأذربيجان إلى إيران على أنها منافس مهم يحتمل أن يخدم متطلبات الغاز الأوروبية. وفي خطوة استباقية محتملة، لم يقم الجنود الأذربيجانيون فقط بانتهاك حدود أرمينيا والضغط على القيادة الأرمينية، بل وشاركوا أيضًا في إغلاق طرق النقل الرئيسية بين الجنوب والشمال بين إيران والموانئ الجورجية. تشير مثل هذه الأعمال العدوانية الأذربيجانية لإيران أنها قد تضطر إلى التعامل مع باكو – وليس أرمينيا – قبل النظر إلى الشمال لفترة أطول، على الرغم من أن إيران قد أعلنت أنها تنوي استخدام أرمينيا. بالإضافة إلى ذلك، بدأت أذربيجان في بناء طريقها الجنوبي الشمالي على الأراضي التي احتلتها في حرب كاراباخ الثانية من الحدود الأذربيجانية الإيرانية باتجاه الحدود الأذربيجانية الروسية، في محاولة لتسهيل صادرات الغاز الإيراني وتصديره شمالًا. قد يكون لمحاولة باكو أن تكون تاجرًا بين إيران وروسيا مع استبعادها موانئ البحر الأسود الجورجية تداعيات تتراوح من العمليات الإسرائيلية ضد إيران إلى المخططات التركية وإلى نجاة النظام الأذربيجاني بعد قطعه للتجارة الجورجية الإيرانية. قد يعتبر البعض الضغط العسكري الأذربيجاني بعد الحرب بمثابة دبلوماسية ماهرة، وقد يختلف البعض مع ذلك.
6 – سوف تتلقى أرمينيا ثلاث مليارات دولار منحةً من الاتحاد الأوروبي للتنمية الاقتصادية على مدى السنوات الخمس المقبلة. وتعتبر باكو ذلك مكافأة غير عادلة بعد أن “حررت” أذربيجان ما تعتبره أراضيها. بينما يعتبرها آخرون بمثابة مقايضة للهزيمة المدبرة لأرمن ناغورنو كاراباخ. لكن حتى مع وصول الغاز الأذربيجاني إلى الاتحاد الأوروبي، فإن إمدادات الغاز في الاتحاد الأوروبي متنوعة بمساهمات من الجزائر وهولندا والنرويج وروسيا. فلا تكفي حصة أذربيجان من الغاز لابتزاز الاتحاد الأوروبي بعدم الاستثمار في أرمينيا.
7- لعل أسوأ القيود التي تواجه أذربيجان هي الكراهية المستوطنة ضد الأرمن داخل المجتمع الأذربيجاني والتي تم إعلانها كسياسة دولة فعالة. فمنذ مرحلة ما قبل المدرسة إلى مرحلة البلوغ، تم تكوين جيل كامل يجسد الأرمن على أنهم الشر بعينه. انتشر التعذيب وقطع رؤوس الأرمن عبر وسائل التواصل الاجتماعي واحتفل به المجتمع الأذربيجاني طوال حرب كاراباخ الثانية. كانت الكراهية ضد الأرمن وسيلة لتعزيز القومية الأذربيجانية وإبقاء علييف في السلطة من خلال إلقاءه اللوم على الأرمن في مشاكل أذربيجان. تم استخدام هذه التقنية من قبل بواسطة ألمانيا النازية وعند تحويل تركيا الإسلامية إلى تركيا القومية. حتى لو تم توقيع اتفاقية سلام بين أرمينيا وأذربيجان، فسيتعين على باكو تغيير نظرة جيل يكن الكراهية ضد الأرمن إذا أرادت لأي اتفاق أن ينجح.
وعلى الرغم من أن الديناميكيات الإقليمية لجنوب القوقاز قد تغيرت بشكل كبير في العام الماضي، لا تزال أذربيجان تمتلك فقط خيارات محدودة حتى مع الاتفاقات العسكرية المعززة مع تركيا واستيلائها على أراضي الأرمن. أصبحت باكو الآن خاضعة تحت ديون أسيادها. تركيا وروسيا.
عن المؤلف: ديفيد دافيدان (محاضر في الجامعة الأمريكية بأرمينيا. أمضى أكثر من عقد من الزمان في تحليل الذكاء التقني في كبرى شركات التكنولوجيا العالية. ويقيم في يريفان، أرمينيا).